جلست وحدي على شرفة بيتنا المطلّة على الشـارع العام ، علّ بعض الضجيج – في زمن صمت فيه كلّ شيء إلا الضجيج- يؤنسني…
أمسكت قلمي .. وجعلت أخط بعض الحروف.. بعض الخواطر.. علّ القلم يفهمني فيبوح بما عجزت أن أبوح به
عندما باشرت عملي في عيادة سنية منذ شهر تقريبا”، حيث العيادة في جبل يطل بهامته على مدينتي.. عرفت كيف يعيش الناس في القمـة … ويعيش من ارتضى أن يعيش في أحياء السفح عند السفح.
البيوت غرف متجاورة .. الأزقة ضيقة.. و الأولاد فيها يلعبون .. يتعلمون من حيث لا يدرون كيف تصنعك القمة لتكون دائما” في القمة.
قد يقطع عليهم اللعب صوت المؤذن ينادي لصلاة المغرب.. فينطلق بعضهم فرحا” ليؤدي الصلاة .. ثمّ ليسمّع ما ينبغي عليه تسميعه من آيات جزء عمّ .. وهو يتلهف أن يفرغ من تصحيح أخطاء تلاوته ليسمح له القائم على أمر المسجد أن يغادر المسجد .. ليعود إلى اللعب في الزقاق.
يستطيع طفل في الخـامسة أن ينطلق بأقصى سرعته في أرض شديدة الانحدار والوعورة في زقاق متعرّج تكثر فيه حفر تملؤها مياه المجاري ربما.. فيتعلم كيف ينطلق في حياته رغم كلّ العقبات دون خوف ولا وجل …. تسبق ساقيه عقله وربما بصره .. فيسقط .. فيتعلّم كيف يكون النهوض .. ويبكي .. فلا يجيب نوحه أحد حتى أمّه .. فيتعلّم كيف لا يبث حزنه لمخلوق،ولا يظهر ضعفه لأحد.. ثم يغلبه نزق الطفولة فيعود ليجري من جديد.. صاعدا” نحو القمـة .
الألعاب بسيطة، طريفة، بديعـة… فهذا يقلّد صوت شاحنة صغيرة طالما جابت الزقاق… وذلك يصنع من لوح خشبي قد رماه نجـار الزقاق مزلاجا” ينزلق به فرحا” لبضعة أمتار ثم يقف ثانية ويحمله رغم ثقلـه ليصعد به ثانية … نحو القمة ليعاود الكرة ثانيـة”… قد يرهقه كثرة الصعود .. لكنه يتعلم أنه لكي يستمتع بلعبته فلا بد أن ينسى تعب الصعود ، ليتذكّر فقط لـذّة التزلّج أثناء النزول… وهكذا يتعلم درسا” آخر من دروس الحياة …
هناك حيث يعيش الناس قي القمـة .. تشعر أن السعادة في عرفهم رخيصة .. فهم يشترونها كيفما شاءوا .. ومتى شاءوا..
بعد بضعة أيام ينبغي أن أسلّم العيادة.. كم أحببت الفترة التي قضيتها ما بين أهل القمة .. كل من راجع العيادة.. حتى من لم يستطع بعد أن يوفيني أجر العلاج.
كنت أعلم .. وقد ازددت يقينا” أن سعادتي ليست بسعة منزلي ، ولا فخامة سيارتي، و لا بنوع هاتفي المحمول .. و إنما هي منحة يمنحها سبحانه من شاء من عباده.
كلّ ما أخشاه على أهل القمة أن ينظروا إلى من هم دونهم عند السفح… فينسوا معنى العيش في القمة.
د.زياد الخباز