أحدث المقالات
الرئيسية / مقالات عامة / الصوت.. داء ودواء!

الصوت.. داء ودواء!

معظم أمراض العصر الحديث يسببها القلق والتوتر العصبي الذي تغذيه الأصوات المزعجة والضجيج، ويأتي الاسترخاء مع الترنم بصوت مسموع يريح العقل والجسد، وكأن تنغيم الصوت وترنيمه يُدَلِّك الروح والعضلات معا.

“الضوضاء” هي السمة المميزة لحياتنا العصرية.. فهي تحاصرنا في كل مكان، وتدفعنا إلى التوتر والعصبية دون أن نشعر؛ مما يعرضنا لمخاطر ارتفاع ضغط الدم، وتسارع ضربات القلب.. وإذا كان من الصعب إزالة مصادر الضوضاء، فلا أقل من تجنب التعرض لها ومحاربتها بكل الأسلحة المتاحة. وإذا كانت هناك أصوات تسبب المرض، ونسميها “الضوضاء”، فهناك أصوات تساعد على الشفاء- بإذن الله- وقد ألهمنا الله بعض الممارسات الصوتية التي تساعد على التخفيف من الضغوط العصبية، والانحرافات المزاجية، بل من بعض الأمراض العضوية، تلك الأصوات نمارسها دون أن نشعر وكأن أجسادنا تعالج نفسها بنفسها.
إننا “نصرخ” فرحًا في حالات السعادة القصوى، وكأن نفوسنا تعجز عن احتواء النشوة والسعادة، وكذلك “نصرخ” ألما وكمدا في حالات الحزن المفرط كما لو كانت أجسادنا ونفوسنا أضعف كثيرا من أن تحتمل آلامها.. وهنا نلمس الأثر العلاجي للصوت؛ ففي حالات الإفراط العاطفي- فرحا أو حزنا- تعيد تلك الممارسات الصوتية النفس والجسد معا إلى حالة التوازن، وكأن الجسم قد تخلص من الشحنة الزائدة التي تفوق احتماله.
ويسجل عالم الطب والنفس الياباني “تاكاشي ناكامورا” ملاحظته حول موضوع العلاج بالصوت فيقول في كتاب “العلاج الشرقي بالتنفس”: “إن إطالة النفس وإمساكه مع ضغط البطن يظهر فعالية كبيرة لموجات “ألفا” في رسم المخ الكهربي، ويشير إلى تحكم خلاق في الجهاز العصبي اللاإرادي”.

وهذا النمط من التنفس يحدث لا إراديا، وتبعا لحاجه البشر إلى راحة الجسد والنفس في صوره إطلاق الأصوات اللينة أو أصوات المد المتاحة لكل البشر على اختلاف لغاتهم وتباين معتقداتهم؛ فمثلا الصوت الذي يخرج من صدور وأفواه الرهبان الأطباء في المعابد البوذية على جبال الهمالايا مع تكرارها لمرات عديدة لبضع دقائق تعود بالأنفاس التي كادت تتوقف من عناء الصعود إلى السلاسة برغم ارتفاع الأربعة آلاف متر، وانخفاض الضغط، وقلة الأوكسجين، وكذلك كلمة “آمن” في صلوات أهل الكتاب.. والأهم والأقرب إلى قلوب المسلمين كلمة “آمين” التي ما إن تنطلق مديدة من صدورنا حتى تمحو آلام الروح والجسد.

التفسير العلمي للعلاج بالصوت

يذكر الدكتور “محمد المخزنجي” في كتابه عن الطب البديل ثلاث نظريات تحاول تفسير تأثير العلاج بالصوت فيقول: “يفسر تأثير العلاج بالصوت -طبقا للفيزياء الحديثة- بأنه ما من جزء من المادة إلا وله ذبذبة محددة تمثل حالته الطبيعية، حتى على مستوى الدقائق دون الذرية كالإلكترونيات الدائرة حول أنوية الذرات، وبما أن أجسامنا في نهاية الأمر مكونة من ذرات، فإن أعضاءنا وأجزاء أجسادنا المختلفة لكل منها تردد موجي بعينه يمثل حالتها الصحية السوية، وهي ترددات متناهية الخفوت لا نسمعها.
هذه الترددات السوية تختل، ويختلف نمطها عند حدوث المرض أو معاناة الضغوط، وما العلاج بالصوت إلا توجيه موجات ذات تردد فعال يعدل اختلال الموجات في الأجزاء المصابة ويعيدها إلى سويتها، أي إلى حالة الصحة.
وهناك تفسير ثانٍ يتناول تأثير العلاج بالصوت على أسس ميكانيكية؛ فالموجات الصوتية عندما تصل إلى آذاننا تتحول إلى نبضات تسري في الأعصاب إلى المخ؛ ليفسرها ويجعل الجسم يتفاعل معها، أما تلك الموجات التي تصل إلى الجسم فإنها تؤثر بنوع من المراوحة بين التخلخل والضغط، وهي ترتطم بالجسد مسببة ارتجاجات ميكروسكوبية خافتة جدًّا، لكنها تكفي لتنشيط الخلايا والدورة الدموية الدقيقة في الجزء الذي ترجه.
أما التفسير الثالث فيرتكز على مفهوم مراكز الطاقة في الجسم تبعا لطب “الأيوروفيدا” الهندي؛ حيث توجد ثمانية مراكز كل منها تسمى “شاكرا” موزعة على طول الجسم لتنسيق تدفق الطاقة بين الأعضاء.
ويعتقد الدكتور “هالبرن” وهو أحد الدارسين للطب الغربي وطب الأيوروفيدا أن كل “شاكرا” لها ذبذبة معينة ذات علاقة بالسلم الموسيقي، وهذه الذبذبات تختل بالمرض والضغوط، والعلاج بالصوت يعيد إليها سويتها الترددية.. وهذه المقارنة يضيف إليها “فابين مامان”- وهو موسيقي ومعالج بالصوت- أن المعالج الجيد يمكنه أن يختار أصواتا مناسبة، ليس فقط لتحسين الحالة الجسدية والنفسية، بل لمكافحة بعض الأمراض ودعم الشفاء منها”.

التطور التاريخي للعلاج بالصوت

تخلط بعض المراجع الطبية بين العلاج بالصوت و”العلاج بالموسيقى”، والحقيقة أن لكل منهما توجهه وتشعباته، والأفضل أن نفصل بينهما؛ لأنهما بذاتهما مبحثان كبيران.
تاريخيًّا نجد الفيلسوف والرياضي الشهير “فيثاغورس” منذ 2500 سنة، يعلم تلاميذه أن الأصوات تساعد على العمل، والاسترخاء، والنوم، والصحو بعافية.
وفي عام 1896 بدأ الاهتمام الطبي الحديث بالتأثير الإيجابي للموسيقى، التي تزيد من تدفق الدم، وتساعد على الصفاء العقلي، وكان ذلك في الولايات المتحدة، ويمكن اعتماد هذا التاريخ كبداية لانتباه الطب الحديث للعلاج بالصوت؛ فالعلاج بالموسيقى لفت الانتباه إلى إمكان العلاج بالغناء، ومن ثم بالترنيم أو التنغيم، وفي النهاية إلى العلاج بالصوت.
وفي الخمسينيات والستينيات، من القرن العشرين، لم يعد العلاج بالصوت وقفا على الصوت البشري أو حتى أصوات الطبيعة، بل تطور الأمر إلى حد إنتاج أجهزة إلكترونية لإطلاق موجات صوتية للعلاج وأخرى للتشخيص، وعلى سبيل المثال ابتكر الطبيب البريطاني “بيتر مانرز” جهازا لإطلاق موجات صوتية للعلاج الموضعي، وأخذت طريقته اسم المعالجة “السيمية” cymatics؛ حيث يقوم الجهاز بنقل الموجات الصوتية عبر الجلد إلى منطقة محددة داخل الجسم لعلاجها، وهذه الموجات تجعل خلايا الجزء المصاب تتذبذب حتى تصل إلى حدها الأقصى، وهو التردد الصحي لهذه الخلايا.
وابتكر إخصائيا الأذن الفرنسيان “د. جاي بيرار” و “د.ألفريد توماتي” طريقة التدريب السمعي التكاملي عن طريق أجهزة تطلق أصوتًا ذات موجات منتقاة لتدريب الأطفال التوحديين والمصابين باللعثمة على سماع وإدراك أصوات كان يصعب عليهم التواصل معها.
وفي العقد الأخير من القرن العشرين، طور الأطباء الفنلنديون طريقة استخدام موجات صوتية، يولدها الكمبيوتر وتبث عبر سماعات، مثبتة في كرسي طبي يجلس فيه المرضى لخفض ضغط الدم المرتفع وإزالة التوتر العضلي والوقاية من مضاعفات أمراض القلب والشرايين.
وفي نهايات القرن العشرين، ابتكر مدرب الترنيم العلاجي “جيل بوريس” طريقة علاجية تسمى “النغم المغولي الفائق”، وفيها يتعلم الناس كيف يستخلصون من أصواتهم نغمات عالية النقاوة، تدخلهم بعمق في حالات التأمل الهادف إلى الصفاء العقلي والسلام الداخلي.
وتروج الآن تسجيلات علاجية تخرج من التبت إلى أوروبا وأمريكا تسمى “موسيقى الأواني” تستخدم في جلسات التأمل العلاجي لإزالة التوتر والضغوط العصبية. ويعلق على ذلك “د.هالبرن” قائلا: “إن الصوت يمكن أن يكون له تأثير قوي على ضربات القلب، ومعدل التنفس، وضغط الدم، وهو يلعب دورا في تفعيل مضادات الألم الطبيعية (الإندورفينات) فإذا تضافرت هذه التأثيرات معا فإنها تصنع نوعا من الاسترخاء الصحي يتيح لقوى الشفاء الذاتية أن تعمل في الجسد”.

أمراض يعالجها الصوت

يذكر د.محمد المخزنجي بعض الاستخدامات العلاجية للصوت فيقول: “إن العلاج بالصوت باستخدام أجهزة إلكترونية حديثة لإطلاق موجات معينة التردد، ثبت أنها تساعد على التئام الكسور والجروح، كما يعتقد أنها مفيدة في معظم أمراض الجهاز الحركي، كما في حالات التهاب العضلات التليفي، والروماتيزم والتهاب المفاصل، وآلام الظهر، والشد العضلي، والرضوض (الكدمات)، والصداع النصفي، وآلام الأعصاب.. وتساعد في علاج التهاب الجيوب الأنفية، كما ثبت أنها تفيد قبل إجراء الجراحات، فتجعل عمليات ترميم الورك أكثر نجاحا، كما تخفف من آلام الانزلاق الغضروفي بما يسمح بعمليات التصحيح اليدوي. وقبل العلاج بالصوت ينصح بالتشخيص الجيد، والتقييم الجيد للحالة، وقد يكون المرور على الطبيب العادي أولاً مهماً؛ ففي نهاية الأمر يمثل العلاج بالصوت- كما في معظم علاجات الطب البديل- عنصرا مكملا مع الطب الغربي الحديث، وفي حالة انفرادها فهي وسيلة وقائية لمنع ظهور أو تفاقم الأمراض”.

وأخيرا يقول المثل العربي: “وداوني بالتي كانت هي الداء”.. فمعظم أمراض العصر الحديث يسببها القلق والتوتر العصبي الذي تغذيه الأصوات المزعجة والضجيج، ويأتي الاسترخاء مع الترنم بصوت مسموع يريح العقل والجسد، وكأن تنغيم الصوت وترنيمه يُدَلِّك الروح والعضلات معا. ولعل خير مثال نذكره: الترنم بآيات من القرآن الكريم، وصدق الرسول الكريم إذ يقول: “زينوا القرآن بأصواتكم”.

د.صهباء محمد بندق

عن فريق التحرير

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*